صباح اليوم التالي، ابلغونا بلقاء معالي المستشار في مقر إقامته، ولكوني لم التق به من قبل، لذا حرصت ان أتجهز مبكراً واستعد جيداً، وأنا على أهبة الاستعداد.. “لم أجد الكرافتة” لذا وعلى عجلة من أمري وجدت “الثوب والشماغ” لذا قررت أن أتسلّح بالهوية “السعودية”.
بصراحة، تفاجأت بالحضور الكبير لهذا اللقاء، والذي قارب من حاجز الـ350 شخص، ومن جانب آخر استغربت لشدة ذكاء “تركي آل شيخ” في الحديث، وسرعته في الإجابة زالرد على الاستفسارات، وحفظه لعدد كبير من الزملاء الموجودين بأسماءهم!
رجعنا بعد ذلك لمقر إقامتنا والذي يقطنه أيضا الجمهور الأرجنتيني، وتعجبت وأنا أشاهدهم يُغنون ويهتفون “كبار ونساء وأطفال” وهم للتو قادمون من مبارة هزيلة جدا أمام “أيسلندا” الضعيفة، بل وأضاع نجمهم “ميسي” ضرة جزاء، وفي اعتقادي -وأنا أتابع المشهد الذي أمامي- أن نظرتهم لكرة القدم مختلفة، فنحن ننظر أن الرياضة فوز وخسارة وهم ينظرونها ترفية ومتعة، وهنا الفرق!
في اليوم التالي اتفقت مع عدد من الزملاء على زيارة منطقة المشجعين Fan Fest عبر ميترو موسكو، والذي أسرني حقيقة بجماله وبغرابته وممراته العميقة التي بعمق يصل إلى 100 متر تحت الأرض، وعلمت فيما بعد أن بعض المحطات افتتحت منذ قرابة 85 عاما! ومما زاد بجماله هو أهازيج الجماهير وأغانيهم والتي أضافت لهذا الأمر متعة أخرى.
ونحن في عربات الميترو متوجهين إلى المكان المطلوب، كنا نترقب وبانتباه بالغ أسماء المحطات باللغة الروسية مع كل توقف! قمنا بحفظ شكل محارف المحطة المطلوبة بشكل جيد، وأصبحنا نقارنها مع كل جهة نتوقف عندها، وهنا صعوبة كبيرة! لأجد مؤخرا تطبيقا لميترو “موسكو” ساعدني كثيرا في التنقل، ويبدو إن اعتزاز “الروس” الكبير بلغتهم وبهويتهم وبوطنهم جعلهم يعزفون عن استخدام أي لغة أخرى كالإنجليزية.
وصلنا إلى المحطة النهائية، واضطررنا أن نمشي على الأقدام لمنطقة المشجعين، ولمسافة قاربت الثلاثة كيلومترات، وللحق لم نشعر بطول المسافة كوننا نمشي في أجواء فرائحية بين هتافات الآلاف من المشجعين، وفي أجواء جميلة بين الحدائق والمسطحات الخضراء، حتى وصلنا ساحة واسعة تضم شاشات ضخمة، ومتجر رسمي للبطولة، وأماكن ترفيهية، وملاعب لكرة القدم!
بصراحة فيها عشت أجواء كأس العالم الحقيقية، وبالرغم من كون هذا المكان لا يحوي على مطاعم أو مقاهي، إلا أن التواجد بين عشرات الآلاف من المشجعين بمختلف جنسياتهم ولغاتهم وهتافاتهم وحتى ملابسهم الغريبة له متعة عجيبة! وشاهدنا المباراة الثانية والتي مني الألمان هزيمتهم القاسية من المكسيك، ثم عدنا إلى فندقنا مجددا.
كل مساء، يتجمع عدد كبير من الزملاء في بهو الفندق يتجاذبون الحديث حول المونديال وكل ما يتعلق به، وغالبا يبدأ النقاش بهذه المواضيع وينتهي بهم المطاف بالحديث عن كرتنا المحلية والهلال والنصر 🙂 ، ولكن للحق أقول أن السعوديون يملكون ثقافة رياضية عالية جدا، ويتضح ذلك جليا عند مشاركة مشجعين من جنسيات أخرى، لدرجة أنه في إحدى الحوارات مع جماهير من الجنسية الأرجنتينية وفي نقاش عن مستوى منتخبهم، كان الزملاء يتحدثون بمعلومات عن لاعبيهم ، ويناقشون خطة مدربهم مع طريقته السابقة، ويذكرون جوانب متعددة حول مستوياتهم والطريقة التي يلعبون بها.. وهم يتابعونا باستغراب تام!
في صباح اليوم التالي، أبلغونا الزملاء المنظمين عن برنامج السفر لحضور مباراة المنتخب مع الأورغواي في مدينة روستوف والتي تبعد حوالي 1000 كيلومتر عن موسكو، وأكدوا لنا أننا يتطلب أن نستقل طائرة ذهابا وإيابا في نفس اليوم، لذا وعلى الرغم أنه يتوجب علينا النوم مبكرا كون الباص سيتحرك للمطار في تمام الساعة السابعة صباحا ، إلا أنني مثل أغلب الزملاء لم نأخذ كفايتنا من النوم، بل بعضهم لم ينم على الإطلاق!
استغرق وصولنا مطار “فنوكوف” قرابة الساعتين بسبب الزحام، علما أن العاصمة الروسية تضم ثلاث مطارات كبيرة، وبالرغم من حالة الإرهاق التي لازمتنا، والنتيجة المخيبة للآمال في الافتتاح، إلا أن الأهازيج نسمعها ومازال يشدو بها الغالبية قبل صعود الطائرة وحتى داخل مقصورة الطائرة، وحتى بعد وصولنا لمطار روستوف، وتفاجئنا أيضا بترحيب المذيع الداخلي بالجمهور السعودي وبشكل خاص، كما وجدنا على بوابة المطار رقصات شعبية تحتفي بنا وبالمنتخب السعودي.
اتجهنا بعد ذلك بالباص إلى أحد الفنادق المعدّة لاستلام تذاكر المباراة، وبعدها -ولظروف أمنية- طلبوا منا المشي على الأقدام للملعب، وبالرغم من كوننا مُجهدين والجو حار جداً والمسافة طويلة أيضاً، ولكن الأجواء احتفالية الجماهير كانت هي البلسم الذي خفف علينا وطأة التعب.
بعد أن دخلت الملعب الجميل، وجدت للأسف مكاني بين جماهير الأورغواي، وأحدهم -بعد ان شاهدني احمل الوشاح الأخضر- قال لي “ممازحا” لماذا تكبدتم عناء الحضور؟ ستهزمون بالعشرة، بصراحة وأنا أشاهد كافاني وسواريز في المقدمة، ويقابلهم في منتخبنا مدافعين بعضهم بالكاد لعب خمس مباريات أساسية في فريقه، كنت أردد “الله يستر!”.
بدأت المباراة ومنذ الدقائق الأولى ظهر المنتخب بشكل مغاير، وقبل ان ينتصف الشوط الأول ولج مرمانا بهدف لا يعكس مجريات اللقاء، الجميل أن الهدف لم يضعف الطموح بل استمر لعبنا بشكل جميل، لدرجة أن الشخص نفسه -راعي العشرة- قال لي فريقكم قوي! ليس هو الذي لعب مباراة الافتتاح؟
انتهت المباراة وخرجنا من المونديال، ولكن بمستوى مميز، وبمشاعر متباينة سعيد بالمستوى وحزين للنتيجة، وأقول في داخلي “الحمد لله” على كل حال، اتجهنا لأماكن توقف الباصات لينقلنا إحداها من جديد للمطار، والوقت الذي استغرقناه من خروجنا من الملعب وحتى وصولنا للمطار تجاوز الـ ثلاث ساعات، وقد سيطر علينا الإجهاد، وغلبنا النعاس، وسيطر علينا الجوع، بصراحة كانت من أكثر الرحلات تعباً وإجهاداً
وصلنا لمطار روستوف “الأنيق” والذي افتتح قبل بداية المونديال بأيام قليلة، ولكن اضطررنا ننتظر ثلاثة ساعات أخرى كون الطائرة تأخرت، بسبب أعداد الوفد الكبيرة، وربما السبب الحقيقي هو إشكالية في التنسيق، لتقلع طائرتنا قرابة الساعة الثانية فجرا، ونصل بعدها بـ “حمد الله” لمقر إقامتنا في موسكو، وبعد أن دخلنا غُرفنا، غُصنا في حالة من النوم المتواصل الذي استمر لساعات طويلة 🙂
وللحديث بقية..